تساؤلات لا بد منها: الجزء الثاني: لا يكفي فتح بروتوكول باريس، بل حان الوقت لطي صفحته
ما تم التعبير عنه مؤخرا من احتجاج شعبي وسياسي تجاه الأوضاع المعيشية المتردية، نجح أيضا على صعيد الشارع الفلسطيني، ولأول مرة، في إبراز الصِلة بين تلك الأوضاع والهيمنة الإسرائيلية على الاقتصاد الفلسطيني من خلال آليات "بروتوكول العلاقات الاقتصادية"، الموقعة بين إسرائيل و م.ت.ف. في باريس عام 1994. ولم تغفل الشعارات التي رفعت والتحليل والتعقيب المكثف منذ ذاك الحين بأن بروتوكول باريس كان الملحق الأول لاتفاقيات أوسلو، وأن استمرار سريانها مرتبط بنتائج الجدل الدائر حول مستقبل الأطر المؤسسية والأمنية والسياسية لأوسلو، بل حول نظام الحكم الذاتي نفسه. وقد يُنظر إلى جميع هذه الاتفاقيات على أنها رزمة واحدة متكاملة ومكملة لبعضها، غير قابلة للتجزئة. وانعكس ذلك بوضوح في سياسات السلطة الفلسطينية منذ 2007 على الأقل، حيث كان العنوان العريض للمرحلة السابقة "الوفاء بالالتزامات الموقعة" وإظهار حسن النوايا والجاهزية المؤسسية، على أمل التجاوب بالمثل من طرف "القوة القائمة بالاحتلال."
وبينما توصل الرأي العام الفلسطيني أخيرًا إلى أن بروتوكول باريس يبدو "أصل البلى" الاقتصادي (مع الاستدراك بأن أوسلو هي "الورطة الكبرى")، فإن التجربة التنفيذية التاريخية والأخيرة لها دلت على أن البروتوكول يحد بشكل شبه مطلق قدرة الساسة الاقتصاديين الفلسطينيين على منع حدوث المزيد من التدهور الاقتصادي، ناهيك عن أنها تقوض وتلجم أيّة احتمالات تنمية (وليست فقط احتمالات النمو) فعلية. وهذا الاستنتاج الشعبي يأتي ليؤكد ما يردده عدد من الخبراء والمؤسسات الفلسطينية والدولية منذ سنوات، مما يجعل من المنطقي التساؤل الذي انتهيت بطرحه في مقال سابق (رابط للمقال الأول) أي إذا كان من الممكن التخلص (أو الخروج) من بروتوكول باريس دون تفكيك أوسلو وألياتها ومؤسساتها.. فهل من بدائل سياساتية اقتصادية خارج اطار باريس يمكن جديا وفي الواقع السياسي الراهن الاحتماء بها واعتمادها بغية معالجة التحديات الاقتصادية الآنية والمستقبلية، دون الإطاحة باتفاقية أوسلو أو التبريء من التزاماتها المتشابكة؟
قبل محاولة الإجابة، لا بد من استذكار بعض أهم ملامح بروتوكول باريس التي تقيد حتمًا احتمالات التنمية والاستقلال والسيادة الفلسطينية، حتى بين دولتي إسرائيل وفلسطين العتيدة، ثم أن أوضح لماذا لا تجدي محاولة إصلاح البروتوكول اليوم، بعد كل ما تعرض له من تآكل وانتهاك وتجاهل من قبل إسرائيل حتى الوصول إلى مرحلة، وكما جاء في قصة الأطفال الغربية حول البيضة المكسورة ،"لن يستطع كل رجال وكل خيول الملك إعادة تركيب هامبتي دمبتي ثانية".
***
عندما قررت م.ت.ف. قبول ترتيبات أوسلو للحكم الذاتي الانتقالي السياسية والمدنية والأمنية، كان عليها إبرام اتفاقية مناسبة لتنظيم العلاقات الاقتصادية بين كيان الحكم الذاتي والقوة القائمة بالاحتلال. بالرغم من كل ما يحتوي البروتوكول من أوجه قصور في تصميمه وشروطه، بما في ذلك الادعاء في مقدمته أنه يهدف لوضع الأسس الصلبة لاقتصاد فلسطيني مزدهر في الضفة الغربية وغزة، التي تشكل وحدة جغرافية اقتصادية واحدة، لا ينفع اليوم مواصلة هذا الجدل الذي لم يتوقف بين الخبراء والسياسيين منذ ما يزيد عن 15 سنة، ونكتفي بالقول أنه إذا كان البروتوكول الخيار الوحيد لتنظيم العلاقات الاقتصادية لإدارة شؤون سلطة فلسطينية ناشئة، فان تلك المرحلة انتهت منذ حين، ويعيش الشعب الفلسطيني اليوم ظروف سياسية وميدانية مختلفة تمامًا، بل تحديات وجدانية ليست اقل ضاغطة من تلك التي أجبرت قبل 20 سنة الدخول في عملية سلام ولّدت أوسلو.
يتمحور بروتوكول باريس حول عدة مجالات للعلاقات الاقتصادية ربطت مصير الاقتصاد الفلسطيني بمتطلبات الاقتصاد الإسرائيلي الأكبر والأقوى. وأهم قنوات هذا "الارتهان" وأضراره الموثقة للاقتصاد الفلسطيني، الأمس واليوم وغدًا، هي:
1. اعتماد النظام التجاري الإسرائيلي (مع بعض الاستثنائيات) من تعرفة جمركية وضرائب غير مباشرة ومواصفات، الذي قد يخدم مسار إنماء الاقتصاد الإسرائيلي المصنّع والمتقدم علميًا والمنفتح تجاريًا وماليًا على أسواق العالم، لكنه غير ملائم لعملية بناء قاعدة إنتاجية متينة أو لحماية المصالح الحيوية لشعب يكافح لتحرير أرضه المحتلة، حيث ينطوي على انفتاح تجاري مبكر ومفرط يؤدي إلى طمس احتمالات بناء "صناعات وليدة" ويدمر الزراعة التقليدية ويزيد من التبعية لإسرائيل ومساره الاقتصادي ؛
2. شروط انسياب التدفقات التجارية بين مناطق السلطة الفلسطينية وإسرائيل وسائر الأسواق الأخرى، والتي تقيدت بالموانئ والمخلصين ووسائل النقل الإسرائيلية والتكاليف الإضافية المترتبة على ذلك، وبالرغم من كل التطور المحقق في القدرة المؤسسية والفنية المكتسبة لدى الجمارك الفلسطينية وقطاع الشحن والتخليص الفلسطيني، في إدارة التدفقات التجارية الحدودية بكفاءة عالية، فإنها ما زالت أسيرة ل"عنق الزجاجة" الإسرائيلية ولا وجود لهم لا على الحدود الدولية ولا داخل الموانئ، بينما لم يعد احد يتحدث عن ميناء غزة البحري (أو مطارها الدولي) المنصوص حرفيًا علي إنشائه في أولى اتفاقيات أوسلو، إعلان المبادئ لعام 1993 ؛
3. تسيير التبادل التجاري الزراعي بين الطرفين على أسس "التنافس الحر"، والذي تحول فعلا إلى عملية إغراق للسوق المحلية بالمنتجات الزراعية الإسرائيلية المشبعة بالإعانات العامة ودعم للأسعار وشبكات للتسويق، مما يقوض تماما فرص التنمية الزراعية والمجتمعات الريفية؛
4. شروط دخول العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل، والتي تحددت سقفها دائمًا بحسب مقتضيات الأمن واحتياجات سوق العمل الإسرائيلي دون مراعاة احتياجات السوق الفلسطيني، مع أن تأمين فرص عمل في إسرائيل اعتبرت من اهم مبررات قبول صيغة "الاتحاد الجمركي" ومن أهم "المكاسب" من تنفيذ البروتوكول حتى عام 2000؛
5. اعتماد العملة الإسرائيلية للتداول والتقييد بالسياسة النقدية والاقتصادية الكلية الإسرائيلية في فصل من بروتوكول باريس لا يذكر عادة عند مناقشة سلبياته المذكورة أعلاه. وكان هناك مبرر في 1994، و ما زال، للتعامل مع هذا الموضوع بمزيد من الحذر وحس رفيع من المسؤولية المهنية والوطنية. لكن نظرًا لما يسببه هذا الارتهان النقدي من تشوه في عدد من المؤشرات الاقتصادية الكلية (نسب الفائدة والتضخم وأسعار صرف العملة والأجور والقوة الشرائية عامة)، وعلى ضوء أهمية اعتماد سياسة نقدية مستقلة (أو ذاتية) لإرساء قواعد حقيقية لاقتصاد يتمتع بحيز من السياسات والسيادة، فان استثناء هذا الموضوع من الحوار الاقتصادي الحالي غير معقول، خاصة وأن السلطة استنفذت جميع "الأسلحة" الضريبية والتجارية المتبقية في "جعبة" بروتوكول باريس لمواجهة الأزمة.
وعندما قرر الرئيس أبو مازن، في أعقاب خطابه أمام الأمم المتحدة في 2011، ان يتم فحص قيود بروتوكول باريس والبدائل المتاحة، كان ربما يرى ماذا ستواجه هذه الاتفاقية من نقد وإلقاء اللوم اذا لم تتحسن الظروف السياسية والاقتصادية. وها نحن بعد عام من ذلك، وتم تجديد القرار ب"فتح" باريس دون تحديد ما هي الملفات التي ستفتح ولأي هدف تماما. وفي نفس الوقت أعلن رئيس الوزراء سلام فياض عن عدد من الاتفاقات (لم يكشف عن جميع تفاصيلها أو نصوصها كما جرت العادة في الماضي) لتحسين آليات التعاون الجمركي ولتسهيل انسياب التجارة بين الضفة الغربية وإسرائيل. كما كتب في هذه الصفحات مؤخرا كبار المفاوضين في باريس (وأوسلو)، السيد احمد قريع، بأنه إذا كان هناك خلل في الأداء الفلسطيني في موضوع البروتوكول، فإن ذلك لا يتعلق بتصميمه بقدر ما هو نتيجة الضعف في التنفيذ الفني والمؤسسي والتفاوضي الفلسطيني، وبالتالي على الجانب الفلسطيني اليوم أن يحسن الاستفادة القصوى منه.
ومع أهمية ما تشير لها هذه التطورات، من استدراك لصناع القرار لخطورة الوضع الحالي والإلحاح في إتمام تعديلات كانت من بين المطالب الاقتصادية الفلسطينية منذ أكثر من عقد من الزمن، فإن المشكلة الكبرى اليوم أنه يبدو أن القرار الاقتصادي يتجه نحو إصلاح البروتوكول، بغية المزيد من التشابك مع اقتصاد القوة القائمة بالاحتلال.
يبدو أن الرهان هو أن إسرائيل قد تقبل اليوم تنفيذ ما رفضته قبل 2000، عندما كانت م.ت.ف. في وضع اقتصادي وسياسي وتفاوضي اقوى ولم تكن إسرائيل قد أحكمت بعد قبضتها الاستعمارية وطوقها حول مناطق نفوذ السلطة الفلسطينية. وهذا في لحظة تُرفع شعارات، ليس لتجديد سريان باريس أو إطالة أمد السيطرة الاقتصادية الإسرائيلية، بل مناهضة للاتفاقية ومطالبة بفك الارتهان لاقتصاد إسرائيل، ناهيك عن تجاهل رأي غالبية الخبراء، الذي يؤكد على ضرورة التخلص من الاتحاد الجمركي والاتحاد النقدي اذا كان سيقام يوم ما اقتصاد فلسطيني "قابل للحياة" لدولة فلسطينية مستقلة.
***
مع ان بروتوكول باريس موقّع عليه من قبل طرفين، فإن السلطات الإسرائيلية تعاملت معه وعدلت من إجراءات تنفيذه دائما حسب متطلباتها الأمنية ومزاجها السياسي، وأبدا ليس حسب نصوصه أو حتى روحه. بمعنى آخر، لم يكن يومًا البروتوكول المرجعية الأساسية أو الضرورية لترشيد القرار الاقتصادي الاسرائيلي بشأن الأراضي المحتلة، بل كانت مخططات توسع المستوطنات والطرق وشبكات الطاقة والجدران الفاصلة والحواجز والمعابر وكل بنية الاستعمار هي المرجعية والدليل التي لا ترى إسرائيل سواها. من جانب آخر مع مرور السنين والانخفاض المتواصل في سقف التوقعات والمطالبات الفلسطينية، فإن البروتوكول أصبح المرجعية الاقتصادية الفلسطينية الوحيدة، التي لا يرى صانع القرار الفلسطيني سواها، وكأنه منقوش في الصخر أو أنه لا توجد نماذج اقتصادية بديلة في العالم، سوى تلك الصيغة البائتة والمتقادمة والمجحفة بحق الشعب الفلسطيني ومقدراته وقدراته الكامنة.
ومع مواصلة الجدل حول مستقبل باريس وأوسلو (بل مدريد نفسه وعملية السلام برمتها)، سيكون من المفيد دراسة جميع الإمكانيات من النواحي القانونية والوظيفية والسياسية، ليس لتعديل أو تصحيح بروتوكول باريس أو للتنفيذ "الأمين" له، إنما باتجاه الخروج تدريجيا ومنطقيا من اعتباره المرجعية الوحيدة. وذلك حيث يمكن بالتراضي مع إسرائيل ودون تفاوض، أو بالسعي السياسي والديبلوماسي والميداني تحقيق كل ما هو ضروري لتأمين الأمن الاقتصادي للمواطن ولحماية الاقتصاد الممزق من الحرب من المزيد من التدهور، بغض النظر عن نصوص باريس.
ومن خلال برنامج سياساتي يضع نصب عينيه المحاور الأساسية للارتهان الاقتصادي ("نقاط الوجع") والحلول البديلة لمعالجتها (اليوم وليس بعد الاستقلال)، يصبح من الممكن تصوّر علاقة اقتصادية مختلفة مع الاقتصاد الإسرائيلي يبتعد عن قيود بروتوكول باريس. من المؤكد انه كما يعكس البرتوكول الاطار الاقتصادي الوحيد المسموح احتلالياً الاسترشاد به فلسطينياً، فان أوسلو (أم باريس) يبقى الاطار الوحيد المسموح لإدارة مناطق الحكم الذاتي في الضفة الغربية. ومَن كان يطالب منذ زمن بتفكيك أوسلو أو اصبح اليوم ينادي بذلك، على حق بالادعاء بان أوسلو يقتضى باريس وأنه ليس هناك ما يبرر باريس اقتصادياً سوى أوسلو. لكن ذلك لا يفرض بالضرورة أنه لا حياة لأوسلو دون باريس.
من هذا المنطلق اذًا، ومع الاعتراف بأهمية معالجة جذرية للازمة الاقتصادية، وضرورة تغيير الاطار التنظيمي الاقتصادي الحاكم (الذي بحد ذاته يكون بمثابة تغيير سياسي)، وصعوبة (بل خطورة) التخلص من أوسلو (أو باريس) بين ليلة وضحاها، وانطلاقا ايضاً من عدم قدسية أية اتفاقات تهدد "الأمن الاقتصادي القومي"، يصبح من الواجب فتح الطريق أمام حوار وطني عاجل وشامل للتدارس في السياسات التجارية والضريبية والنقدية المناسبة لمواجهة تحديات اليوم، وأن يطوى ملف باريس هذه المرة، لكي تعمل العقول الحرة وقادة الرأي الشابة والمخضرمة على رسم احتياجات وأولويات وآليات مرحلة صمود قد تطول، وبانتظار هبوب رياح أي تغيير سياسي أو اختراق ديبلوماسي قد تخلط الأوراق كلها، وتجعل كل هذا الجدل نافل وغير ضروري!
في الحلقة القادمة والأخيرة: ما هو متوفر كبدائل عن اطار باريس، وكيف يتحقق وعلى ارض الواقع باقل خسارة؟
[إضغط هنا لقراءة الجزء الأول]